د. عبدالله مرعي بن محفوظ
يقال أن الصحفي المصري الراحل علي أمين هو أول من طرح فكرة الاحتفال بعيد الأم في الشرق الأوسط بعد مقاله الذي نُشر بجريدة الأخبار ، والصحفي الراحل طلب بأن نتفق على يوم من أيام السنة نطلق عليه احتفال أو (يوم الأم)، ونجعله يوماً لتكريم دورها في التربية ونشجع أبناءنا في هذا اليوم بأن يعاملوا أمهم كملكة، وبعد نشر المقال اختار القراء يوم 21 مارس وهو بداية فصل الربيع ، ليكون احتفالاً يتماشى مع فصل العطاء والصفاء ، وهكذا كان أول احتفال احتفل به المصريون بأمهاتهم في 21 مارس سنة 1956م ، بعدها اقترح البعض تسمية عيد الأم بعيد (الأسرة) ليكون تكريمًا للأب أيضًا ، ولكن أغلب الدول أخذت من يوم 21 يونيو احتفالاً للأب عدا إيطاليا التي جعلت احتفال الأب مقدماً على احتفال الأم بتاريخ 19 مارس .
جميل أن نستجمع الذكريات ونرفع الهمم بحق الوالدين في كل مناسبة وفي كل وقت، ولكن حق الوالدين ليس محصوراً باحتفال أو عيد ، ولا يتصور لأي عاقل بار بهما أن يظل منشغلاً طوال العام بمصالحه ومشاغله وزوجته وأولاده ، ويخصص يوماً أو يومين في العام لتكريم والديه ويجتمع بهما في هذا اليوم وهم قدموا لنا طوال عمرهم ، حباً وحناناً .. صدقاً ووفاءً.. بذلاً وعطاءً.
حقهما ليس مادياً او يوماً في العام نتفرغ فيه لهما مكرمة منا عليهما ، قال صلى الله عليه وسلم { أنت ومالك لأبيك} ، وحقهما خفض الجناحٍ ، ولين كلامٍ ، وطاعة بطيب نفسٍ قال تعالى:
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } ، وحقهما تبجيل وتكريم طوال العام ، فأنا المحتاج إليهما ، واحتياجي لهما لن ينقطع ، ففي الطفولة أنا محتاج لعطفهما وحنانهما ودفء حضنهما ، وفي شبابي محتاج لدعائهما ، وفي شيبتي وضعف قوتي محتاج لرضائهما، نعم يظل إكرامي لهما طوال عمري ، وليس يوماً فقط في فصل الربيع ، لأن حياتهما كلها ربيع ، كلها صفاء ، ونماء، وعطاء ، ووفاء .
إن من أجمل الأعمال الإنسانية في شريعتنا الإسلامية - هو حق (الأسرة) ابتداءً بالوالدين ثم الأقربين فالأقربين ، وخير الإنسان مرهون بما يقدمه لأسرته وفق المعادلة النبوية (خيركم خيركم لأهله) ، هذا الخير وتلك الفضيلة مطلقة غير مقيدة بمكان ولا زمان، بل يكفي مكانة الوالدين في الإسلام أن أمر الله ببر الوالدين والإحسان إليهما بعد الأمر بعبادته في أكثر من موضع من كتاب الله عز وجل .
أتذكر مناسبة حين احتفل ابني عيسي البكر بتخرجه من الثانوية قبل سنوات مضت وكنت بعيداً عنه في مدينة الرياض في رحلة عمل مع والدي، يومها لم يكن أمامي سوى أن أكتب مقالة مهنئاً في جريدة المدينة أبارك له بتخرجه ، وأعتذر له عن وجودي بعيداً عنه في هذا المناسبة ، يومها قرأ والدي المقال ونحن في الرياض ، ولكنه لم يعلق حينها ، بل اكتفى بنظرة الرحمة التي شملتني طوال عمري ، والتي ما زلتُ ألتمسها منه حتى بعد أن بلغتُ الأربعين من عمري ، واكتفى والدي بتدوين مشاعره الطاهرة في كتاب حياته ، الذي أخذ منه أكثر من عشر سنوات فأصبح مثل كتاب (بسمارك) « أفكار وذكريات»، والذي لم ينته صاحبه منه لشدة إتقانه في تدوين ذكريات حياته ، تحكي مسيرته الصعبة ، ومواقفه المتعددة ، وتحمّله (المسئولية) وهو في سن الثانية عشرة، بعد هجرته للحجاز في الستينات من القرن العشرين استجابة لطلب جدي، بعد أن ضاقت الدنيا عليه في وادي حضرموت من فقرها، فقال له مودعا سوف تعود ومعك (الملايين) من الفرنسة والروبيات، قالها جدي مبارك من هم الفقر! وجدي وقتها لم يكن عنده الفضة الفرنسية ولا كان والدي يعرف الروبيات الهندية .
لكن والدي امتثل للأمر وهاجر إلى مكة المكرمة، هاجر وهو يحمل (دعاء) والديه، هاجر وهو يحمل البركة قبل العلم، والالتزام قبل الخبرة ، وأخلاق القرية قبل أخلاقيات العمل والتجارة .. (سبحان الله) ؟ كم مثل هذه القصص يمكن لنا أن نجدها في حياتنا ومع ألمع الشخصيات الاقتصادية .
يا والدي الغالي: أعتذر حين فكرتُ في ابني وتركتُ من أضاع شبابه لراحتي وسعادتي وهو يحارب زمن (هدت) أركانه وهو يودع زمنا صعبا حتى يسعد حفيده قبل ابنه، لن أوفيك يا والدي حقك ولا بجزء ضئيل من فضلك .
أما أمي الفاضلة، تلك الجوهرة الصافية بصفاء قلبها، واللؤلؤة القيِّمة بقيمة بَذْلها وعطائها،أمي أيتها الزهرة الندية التي لا ينقطع عبيرها، ولا يتغير رحيقها، في بطنها لمستُ الأمان، ومن صدرها وفي حضنها أخذتُ الحنان، وبرضاها أنال الجنان .
ختاماً الى الوالدين الكريمين، أجلس أمامكما وأنا أتصفح صفحات تاريخي خادماً صغيراً لا أتذكر انتصاراتي، ولا تفوقي، ولا إبداعي، ولا موهبتي، لأن نجاحي في هذه الدنيا من بعض عطاياكم ومن فضل دعائكم ، لذلك إذا جثوتُ عند أقدامكم فأنا طفلكم الصغير(الكندي) ، وابنكم المدلّل يملاه الخجل، ويعتريه الوجل، فألغي الألقاب وأحذف الشهرة وأنسى المديح ؛ لأنكم مدرسة حياتي، وأنا تلميذ بها حتى آخر رمق من عمري، فأنتما كل شيء في حياتي، لذلك اسمحا لي بأن أقبِّل أقدامكم، ليس مرة في العام، بل كل ليل ونهار .. حتى تنتهي الآجال وتنقضي الأعمار.. ربِّ ارْحمْهما كما ربياني صغيراً.
المصدر: صحيفة المدينة، الأربعاء 17 مارس 2010